ترامب والقضاء- السياسة الأميركية في مهبّ التحديات والمواجهات.

المؤلف: د. عمار علي حسن10.27.2025
ترامب والقضاء- السياسة الأميركية في مهبّ التحديات والمواجهات.

ممّا لا ريب فيه لدى المتمعّنين في دهاليز السياسة الداخلية الأميركية، أنّ التوترات قد بلغت ذروتها، وأنّ التحوّل من المنافسة المقنّنة إلى المواجهة الصريحة قد تسارع بشكل ملحوظ منذ صعود دونالد ترامب إلى الساحة السياسية كمرشح للمرة الأولى، ثم دخوله البيت الأبيض رئيسًا، لتتأجّج الأمور أكثر بعد إخفاقه في الحفاظ على منصبه في الانتخابات الأخيرة.

واليوم، وبعد إدانة القضاء الأميركي لدونالد ترامب في أربع وثلاثين قضية، وخاصةً إذا تطور الأمر إلى حكم بالسجن في شهر يوليو/تموز القادم، فإنّ السياسة الداخلية الأميركية ستشهد صراعًا وعنادًا ومعاناة لم تعرفها من قبل بهذا الشكل. هذا الأمر سيضع الديمقراطية التمثيلية ذاتها في مواجهة أخطار تضاف إلى التحديات التي تواجهها منذ عقد على الأقل في المجتمعات الغربية بأسرها، وهو ما دفع بعض المفكرين السياسيين إلى المطالبة بتعزيز "الديمقراطية التشاركية"، التي تحافظ على حيوية السياسة في الغرب وتغذيها برضا شعبي أعمق وأوسع، باعتباره أساس الشرعية الحقيقية.

"أموال الصمت"

إنّ صدور حكم قضائي على ترامب، حتى وإن لم يمنعه من الترشح، سيُعيق مسيرة المنافسة السياسية من بابها المألوف، على عكس ما كان عليه الحال مع الرؤساء السابقين الذين حرصوا على الالتزام بالدستور والقانون، ولو ظاهريًا.

فذلك المظهر الشكلي، على الأقل، كان يعكس السير في مسار سلمي آمن، يحظى بقبول شعبي، مع التسليم بنتائج العملية الديمقراطية، التي تترتب على مقدمات متفق عليها ويحميها الدستور، ما يجعل الفائز في الانتخابات الرئاسية، على الرغم من تركيبتها وتعقيداتها في ظل نظام "المجمع الانتخابي" لكل ولاية، أمرًا قد يكون محل شك في المستقبل إذا فاز بايدن، ومحل انتقاص من النزاهة والهيبة إذا فاز ترامب.

ويتجسد هذا الأمر في إعلان الحزب الجمهوري أن ترامب هو مرشحهم، بصرف النظر عن الحكم النهائي الصادر بحقه. وهذا يعني أن الرجل سيقتحم الساحة السياسية بقوة، وربما بفوضى، خاصة إذا ثار غضب أنصاره واعتبروا الحكم مجرد مؤامرة، كما فعلوا عندما خسر الانتخابات السابقة.

لقد اتهمت المحكمة دونالد ترامب بتزوير سجلات الأعمال في القضية الجنائية المتعلقة بدفع أموال للممثلة الإباحية ستورمي دانيالز لإخفاء علاقة جنسية معه، وهي القضية المعروفة إعلاميًا بـ "أموال الصمت". كما اتهم ترامب بـ "المشاركة في مؤامرة غير قانونية لتقويض نزاهة انتخابات الرئاسة عام 2016، والاشتراك في خطة غير مشروعة لقمع المعلومات السلبية، تضمنت إخفاء دفع أموال مقابل صمت الممثلة الإباحية".

لا شك أن هذا يمس سمعة ترامب، حتى لو كان بإمكانه استئناف أي حكم يصدر في الحادي عشر من يوليو/تموز المقبل، حسبما حدد القاضي خوان ميرشان، وخوض السباق الانتخابي، وهو أمر يمكنه فعله حتى من داخل السجن.

فلو سُجن ترامب، وهي مسألة يستبعدها الخبراء القانونيون لعدم وجود سجل إجرامي لديه، ولأنه متهم بارتكاب جرائم غير عنيفة، فإن هذا لن يمنعه من الترشح، على غرار ما حدث مع مرشح الحزب الاشتراكي يوجين دبس، الذي خاض انتخابات عام 1920 من داخل السجن حيث كان يقضي حكمًا بالسجن لمدة عشر سنوات، واستغل أنصاره سجنه في الترويج له، وحصل على مليون صوت، رغم أنه كان مدانًا بتهم أشد خطورة على الحياة السياسية الأميركية في ذلك الوقت، وهي التحريض على الفرقة والانشقاق، وحض المواطنين على رفض التجنيد الإلزامي.

تدابير استثنائية

سيستفيد ترامب من دستور بلاده الذي لا يشترط خلو السجل الجنائي للمرشح الرئاسي، ويشترط فقط أن يكون أميركيًا بالميلاد وأن يبلغ من العمر أربعين عامًا وقت الترشح. هذا الأمر لم يغب عن ذهن القاضي ميرشان، الذي خاطب ترامب قائلًا: "أنت الرئيس السابق للولايات المتحدة، وربما الرئيس المقبل أيضًا". بل إنه، ومنذ اليوم الأول لاستدعاء ترامب للمحاكمة في الرابع من أبريل/نيسان 2023، وصفه بأنه "مرشح لرئاسة الولايات المتحدة الأميركية".

لكن حتى لو لم يُودع ترامب السجن، حيث يعاقب القانون بالسجن لمدة تتراوح بين ستة عشر شهرًا وأربع سنوات في مثل هذه القضايا، فقد يخضع للإقامة الجبرية في منزله بنيويورك أو فلوريدا، ويخضع للمراقبة لفترة من الزمن، وللإجراءات المعتادة التي تطبق على المدانين، بالإضافة إلى تدابير استثنائية مثل طريقة حماية جهاز الخدمة السرية له، وما إذا كان سيسمح له بالسفر لحضور فعاليات حملته الانتخابية إذا حكم عليه بالإقامة الجبرية في منزله.

هذا الأمر سيلقي بظلال كثيفة على الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة، سواء بسبب اتهام القضاء بالتسييس، أو توظيف السجن في استقطاب التعاطف مع ترامب، وهي مسألة انطلقت بعد دقائق فقط من إدانة المحكمة له، إذ فتح موقعه الرسمي حملة تبرعات لصالحه بوصفه "سجينًا سياسيًا"، وليس مجرمًا، وهي فكرة يحاول ترامب نفسه ترسيخها، حيث تضمن تعليقه الفوري على الحكم العبارة التالية: "لقد تمت إدانتي للتو في محاكمة مطاردة الساحرات السياسية. لم أفعل شيئًا خاطئًا! داهموا منزلي، واعتقلوني، وأخذوا صورتي، والآن أدانوني للتو".

إن ترامب بات يشكك في "نظام العدالة الأميركي" ويتهم القاضي بالفساد، والقضاء بالخضوع لأهواء السياسة وانحيازاتها، ما يعني أنه، في حال ترشحه، سيوظف كل هذا للهجوم على النتائج إذا لم تكن في صالحه، كما فعل في انتخابات عام 2020، التي اتهمه فيها الديمقراطيون بالمشاركة في مخطط لإلغاء نتائجها، وهو ما اعتبره البعض وقتها محاولة "انقلاب"، فضلًا عن اتهامه بتدبير مؤامرة غير قانونية للتأثير على نتائج انتخابات عام 2016 التي فاز فيها.

ويمهد ترامب الطريق لنواياه هذه، إذ لطالما استغل مسار محاكمته في جمع التبرعات، وكان يستميل أنصاره دائمًا برسائل إلكترونية، قال في إحداها: "لقد خرجت من المحكمة بسرعة"، مدركًا في كل الأحوال أن من حقه استئناف أي حكم يصدر ضده، وهي مسألة قد تستغرق شهورًا أو سنوات، ما يعني أن موعد الانتخابات المقبلة سيحل بينما القضية لا تزال قائمة.

الظاهرة "الترامبية"

إن ترامب لا يمثل شخصًا عاديًا في الحياة السياسية الأميركية، بل هو ظاهرة أطلق عليها البعض "الترامبية"، وهي مزيج من الشرعية القانونية والجموح، بل والابتذال السياسي، والإجراءات اليمينية المتطرفة كالتي تستهدفُ المهاجرين، وإعادةُ صياغة دور الولايات المتحدة في العالم وكيفيةُ مواجهة منافسيها وخصومها وأعدائها، إضافةً إلى تصورات دينية وأفكار سياسية واجتماعية تغذي نوعًا من "المكارثية الجديدة".

كل هذه المجموعة من التصورات ستنعكس حتمًا على الخطاب السياسي للجمهوريين، وخاصةً الترامبيين منهم، في الفترة المقبلة. وهذا يعني وجود مواجهة حادة بين أنصار الحزبين الجمهوري والديمقراطي، تسبق الانتخابات وتتخللها وتعقبها، وربما تكون أشد ضراوة من الانتخابات السابقة، ما يضع الديمقراطية الأميركية، التي تقدمها واشنطن للآخرين كنموذج يُطالب الجميع بالامتثال له، في امتحان قاسٍ، بل محنة، ستكون لها تداعياتها على العالم بأكمله.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة